يعتبر مفهوم التجديد من المفاهيم الإسلامية الأساسية التي أكدها صاحب الدعوة في الحديث المعروف "يبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" (أبو داود) الذي يحمل بشارة نبوية باستمرار هذه الأمة وعمل الإسلام فيها، عن طريق استمرار حركة تجديدية يمكن بها للدين الثابت أن يستوعب حركية الحياة المتجددة بما يستنبطه لمشكلاتها من حلول تصطبغ بصبغة الوحي وإن لم تكن منه ويوقّّع بها الأئمة الأعلام عن رب العالمين.
فما حظ الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية من التجديد الموعود المعوّل عليه في البقاء والنماء والتفوق؟
لم يكد يخلو عصر من فقهاء مجتهدين مجددين، فذلك شرط أساسي لبقاء هذا الدين من طريق تفاعله المستمر مع اختلاف الزمان والمكان، غير أن هؤلاء المجددين يتكثفون في عصور الازدهار ويقلّون في عصور الانحدار، وبهذا المقياس لا غرو في اعتبار الإسلام يعيش منذ قرنين إرهاصات نهوض وتطور، وقد أخذ طوق التقليد الذي ران لعصور طويلة ترتخي قبضته حول رقبة الأمة وينفسح المجال للاجتهاد والتجديد.
فكان في شبه الجزيرة العربية الشوكاني وابن عبد الوهاب وفي شبه القارة الهندية شاه ولي الله الدهلوي، دعوات تجديدية تنطلق من رحم الأمة بمنأى من كل تأثير أجنبي.
وفي القرن الموالي التاسع عشر حيث كانت الهجمة الغربية على الإسلام دينا وحضارة وأرضا، اندلعت في أرجاء عالم الإسلام ثورات جمع زعماؤها بين مهمتي التجديد الديني والدعوة إلى الجهاد، فكانت حركة أحمد الشهيد في الهند وحركة الإمام منصور شامل في آسيا الوسطى وحركة ابن فوديو في غرب أفريقيا وحركة المهدي في السودان وحركة الأمير عبد القادر في الجزائر وحركة مصطفى كامل في مصر .. كلها تصدت للغارة الغربية على عالم الإسلام .
غير أن هذه الحركات لم تفلح في رد الاكتساح الغربي المتفوق في أدواته بفعل ما أنجز من تطور حضاري علمي وتقني، بما حتم تعميق مشروع الإصلاح والتجديد، فكانت "حركة الجامعة الإسلامية" بقيادة السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ورشيد رضا..
وهي الحركة الفكرية والسياسية التجديدية التي لم تكتف بجانب واحد من جوانب التجديد كالتجديد العقدي أو الدعوة إلى الجهاد، وإنما دعت إلى نهوض شامل يستمد أصوله من مبادئ الإسلام ومن مقاصده متفاعلا مع ما استجد من علوم العصر وخبراته في كل المجالات مما يتساوق مع الإسلام ويخدمه، رافضا ما عداه.
وبالتوازي مع هذه الحركة التجديدية المنبثقة من المجتمع الأهلي، نشأت في حاضرة الخلافة وحواضر إسلامية أخرى مثل مصر وتونس مشاريع للاجتهاد والتجديد على أساس إسلامي "يقتبس" من حضارة الغرب ما يتساوق مع مقاصد الإسلام في العدل والحرية تحديثا للإدارة والتعليم والجيوش والاقتصاد.
لم تجدِ تلك المحاولات التجديدية في وقف الزحف الغربي على عالم الإسلام، فقد كانت موازين القوة شديدة الاختلال لصالح العدو، وظل أثر التجديد فوقيا نخبويا لم ينزل إلى العمق الشعبي.
غير أن حركة "الجامعة الإسلامية" مهدت لولادة الحركة الإسلامية المعاصرة في الثلث الأول من القرن العشرين على يد الإمام الشهيد حسن البنا تلميذ الشيخ رشيد رضا، وامتدت فروعها ونظائرها في أرجاء عالم الإسلام وأقلياته وذلك بعدما أسفر الكيد الغربي عن إسقاط آخر مظلة سياسية جمعت المسلمين، الخلافة العثمانية، بما عناه ذلك من أن رسالة التجديد والإصلاح في الأمة لم يعد كافيا للنهوض بمتطلباتها عمل فردي كما كان يحصل عبر تاريخ الإسلام، فكان لزاما تعميق وتوسيع مشروع التجديد والنزول به إلى أوسع قطاعات الجماهير، ومنازلة الاحتلال على كل صعيد باعتباره غزوا شاملا لم يكتف بالسيطرة على الجغرافيا، بل يعمل حثيثا على اختراق العقول والثقافة استبعادا للإسلام وتهميشه، فكان تأكيد الجيل الجديد للمصلحين أن الإسلام دين ودولة ومجتمع وحضارة، وأن النهوض به يقتضي عملا شاملا تتضافر عليه كل فئات الأمة، وينال فيه العمل الفكري التجديدي حظه إلى جانب العمل الجماهيري:
على صعيد التعامل مع التراث واصل هذا التيار الدعوة إلى التحرر من التعصب المذهبي، مؤكدا الإسلام الجامع ومستفيدا من التراث الإسلامي على اختلاف مذاهبه دون التقيد بواحد منها، ومن علوم العصر وتجاربه الحضارية في تواضع غير مستخذ.
ففي مجال العقائد كان التواصل مع تراث الجامعة الإسلامية مع كتاب التوحيد لمحمد عبده، وسارت على نهجه أجيال المجددين تتحدث عن عقائد الإسلام وعن أنظمة الإسلام (البنا، المودودي.. الغزالي.. البوطي..) في تجاوز واضح لموروثات علم الكلام التشقيقية.
وفي مجال التفسير اتجه التجديد لتحريره من الجدل المذهبي والكلامي والتفاريع اللغوية ومن الإسرائيليات، وربطه بالواقع باعتباره إنما جاء لإصلاحه، فكان تفسير المنار للإمامين عبده ورضا و"في ظلال القرآن " ل سيد قطب و"تفهيم القرآن" للمودودي.. إلخ.
وفي مجال أصول الفقه تم إحياء فكر المقاصد للأصولي الأندلسي الإمام الشاطبي، وتتالت فيه المؤلفات بدءا بالإمام محمد الطاهر بن عاشور والفاسي والنجار.. وبلغ الأمر في السنوات الأخيرة أن نشأت مؤسسات ترعى فكر المقاصد مثل التي بعثها الشيخ زكي يماني.
ويلحق بهذا التجديد الأصولي تطوير فروع فقهية جديدة مثل فقه الأقليات الذي قام على تطويره المجلس الأوروبي للإفتاء (القرضاوي، ابن بيه، فيصل مولوي، النجار)، وفقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه البيئة.
كما تم إحياء الفكر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لابن خلدون، فكان كتاب العدالة الاجتماعية ومعركة الإسلام والرأسمالية لسيد قطب، وكتابات المودودي وباقر الصدر وفقه الزكاة للقرضاوي..
وتتابع التأليف للتأسيس لاقتصاد إسلامي لا ربوي، في تحدّ سافر للرأسمالية أسفر عن تأسيس شبكة من المصارف الإسلامية والجمعيات التعاونية التي تقوم على مبدأ المشاركة بين العمل ورأس المال، صمدت في وجه الزلزال الذي أصاب الرأسمالية، بما فرض على الغرور الغربي أن يتواضع ويأخذ النموذج الاقتصادي الإسلامي مأخذ الجد فتفتح لدراسته أقسام في جامعاته ونوافذ في كبريات بنوكه للتعامل وفقه، بل نشأ تنافس بين أقطاب الرأسمالية على افتتاح بنوك تتعامل بحسب الشريعة الإسلامية.
وفي مجال النظم الإسلامية السياسية تتابعت بعد كتاب الخلافة لرشيد رضا المؤلفات، فكان من ذلك كتاب الخلافة للسنهوري وكتابات الشهيد عبد القادر عودة وضياء الدين الريس وفتحي عثمان وسليم العوا والقرضاوي والترابي والغنوشي.
وفي مجال التأليف الفقهي اللامذهبي كان فقه السنة للسيد سابق، والفقه الإسلامي للشيخ وهبة الزحيلي، والفقه الجنائي في الإسلام لعبد القادر عودة.
وفي مجال العلاقات الدولية كانت مؤلفات كثيرة، لعل أهمها فقه الجهاد للقرضاوي.
وفي المجال التربوي كان فقه السيرة للغزالي وللبوطي ودراسات في السيرة لعماد الدين خليل والمنهاج التربوي في السيرة للشيخ الغضبان والمنهاج النبوي لعبد السلام ياسين.
وفي تأصيل منهج الفن الإسلامي كانت مؤلفات محمد قطب والقرضاوي والترابي.
وفي المجال التطبيقي نما قطاع سمعي أو سمعي وبصري للأغنية الملتزمة، ونشرت مؤلفات في قطاع الدراما، ومحاولات لاقتحام مجال السينما لا تزال تلاقي عوائق من فقه التشدد.
وفي فقه النساء تأصيلا لمكانتهن ودورهن في الإصلاح وحقوقهن، كانت مؤلفات كثيرة أهمها موسوعة المرأة في عصر الرسالة لعبد الحليم أبي شقة.
ولقد أثمرت هذه الحركة الفكرية التي لا تزال تمتد وتتسع وتتعمق تأثيرات واسعة إن على صعيد تربية الفرد أو على صعيد التماسك الاجتماعي الذي تعمل فيه الدولة تفكيكا وتذريرا، أو على الصعيد السياسي حيث قامت على أساس الفكرة الإسلامية التجديدية حركات على امتداد عالم الإسلام تردم الهوة بين عقيدة المسلم وضميره الديني وبين واقعه الاجتماعي والسياسي ترجمة لعقيدة التوحيد، فكانت الحركات الإسلامية متعددة المناهج:
فحيث هناك احتلال ترفع راية الجهاد، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير..
وحيث هناك حكم مستبد وحيف اقتصادي وفساد مجتمعي ترفع راية الجهاد السياسي والاجتماعي من طريق تشكيل أحزاب سياسية تخوض المعارك الانتخابية لتؤثر في القرار السياسي مشاركة أو معارضة، وتؤكد حضورها في مؤسسات المجتمع المدني الصحية والإغاثية والتعليمية والثقافية والإعلامية والنقابية. ولا يعيق عملها غير ما ظل سائدا من أنظمة الاستبداد في أرجاء واسعة من عالم الإسلام، تجد دعما غير مجذوذ من قبل الديمقراطيات الغربية.
هذا الوضع نمى مشاعر الغضب وتيارات التشدد، فنشأت حركات تتخذ من أساليب العنف نهجا لتغيير الأنظمة، إلا أنها لمّا لم تفلح اشتد غضبها على الغرب الداعم لتلك الأنظمة فاستهدفته، بما وفر أعظم الفرص لأعداء الإسلام لشن حملات شعواء على الإسلام وأقلياته، وتقديمه على أنه خطر على التمدن والاستقرار.
رغم أن ظاهرة العنف لا تستمد جذورها من الإسلام فهو لا يعطي شرعية للعنف العشوائي، ولا يقاتل إلا من يقاتله "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم".
ورغم محدودية حجم وأثر جماعات العنف فإنه لا تخلو من مثلها أمة أو ديانة، فبالتأكيد إن جيش تحرير إيرلندا مثل خطرا أعظم على بريطانيا من بعض الشباب الإسلامي الذي تتركز عليه الأضواء للإساءة للإسلام.
ومع ذلك فإن وجود جماعات التشدد وتصاعد موجة الطائفية نكوصا إلى عصور الانحطاط، لا يخلو من الدلالات على أن فكر الإسلام لم ينل ما يكفي من التجديد في مستوى الكم والنوع، وهو ما عبرت عنه سلسلة من المراجعات في أكثر من بلد عربي من قبل فصيل إسلامي "جهادي" قد تورط في منهاج أورثه ندما، بما يؤكد أن بضاعته الفكرية مزجاة، فكان محكوما بمنهج التجربة والخطأ بينما الأصل أن يسبق العلمُ العمل.
مطلوب التجديد لا يزال بعيدا ما دام تعثر المسلم لا يزال قائما في تدبيره لشؤون بيئته وعصره، وآية ذلك تعثر مشاريع التجديد وارتباكها إزاء ممارسة تجربة الحكم لمّا آل إليها الأمر، سواء أكان ذلك في أفغانستان على يد المجاهدين أم كان في السودان أم في إيران أم في الصومال أو في العراق..
حيث كان عجز الإسلاميين فاضحا ارتكاسا في الطائفية والعشائرية والتحالف مع الاحتلال واستدعاء فكر الخوارج والعجز عن إرساء نظام سياسي يستوعب كل التكوينات السياسية والدينية والعرقية، بما لا يمثل شهادة للشعار الذي ترفعه الحركة الإسلامية أن الإسلام هو الحل، بل يمكن لخصومها أن يشككوا في ذلك رافعين شعار "العلمانية هي الحل"، وهو ما أبرزته الانتخابات العراقية الأخيرة من تفوق للقائمة العراقية العلمانية باعتبارها القائمة الوحيدة التي جمعت مكونات عراقية متنوعة سنية وشيعية.
بينما حزب البعث -على دكتاتوريته- كان يجمع في صلبه مختلف مكونات الشعب العراقي السنية والشيعية والكردية والمسيحية، بما يرشحه للزعم بأنه الأقدر على صيانة الوحدة الوطنية العراقية، خلافا للأحزاب الإسلامية التي انغلقت على نفسها وجاءت تبشر بحكم طائفي مرتضية نظام المحاصصة الطائفية الذي أتى به الاحتلال وفي ظله، بما يعد نكوصا على الأعقاب.
الإسلام يكون هو الحل فقط عندما يكون قادرا على صنع الإجماع.
يمكن أن تستثنى من تجارب التطبيق الفاشلة للإسلاميين التجربة التركية التي ارتبط مشروعها -خلافا للمشاريع الإسلامية الأخرى- بتوسيع مجال الحرية وحكم القانون وسلطة الشعب، في مواجهة المشروع العلماني الذي ارتبط منذ نشأته على يد العسكر بفرض وصايتهم على الدولة وعلى المجتمع.
المشروع الإسلامي هنا ارتبط بجهاد سلمي مبدئي لا يتزحزح عنه مهما عرض له من كيد وقمع، دفاعا عن الإسلام والحرية والحداثة، بما أهّله لأن يوالي ويراكم مكاسبه، ويجنّبه الانزلاقات التي استدرجت إليها المشروع الإصلاحي الإسلامي في معظم بلاد العرب أنظمة ذات طبيعة فاشتية طاغوتية.
كما عبر عن محدودية المنجز التجديدي تردّدُ كبرى الحركات الإسلامية إخوان مصر في المضيّ مع آليات النظام الديمقراطي إلى النهاية، ثقة في الشعب واحتكاما إليه. ظهر ذلك في مشروع البرنامج الذي طرحوه للمناقشة العامة، وحمل في سمته العام نفسا تجديديا واضحا ومتطورا، لولا أن شوشت عليه حتى طمسته تحفظات على مبدأ الاحتكام إلى الناس والثقة في إسلامهم ووعيهم، إذ اقترحوا هيئة علمائية تختص بالرقابة على المجلس التشريعي، مما قرئ على أنه إرادة في فرض وصاية دينية على الإرادة العامة.
ومن نفس القبيل اعتراضهم على حق الشعب في انتخاب امرأة أو غير مسلم للرئاسة، وذلك متابعة لأدبيات سلطانية موروثة لا أثر لها عمليا في الواقع، أو تنزيلا لنصوص دينية على واقع مختلف.
وكان يسعهم الاكتفاء بأن لا يرشحوا لأي منصب في الدولة إلا من ارتضوه، دون أن يروموا رفع ذلك إلى مستوى إصلاح دستوري.
وواضح أن الخوض في المسألة مضر بل بالغ الضرر دون أن يترتب عليه عمل، فالقبطي لا يكاد يصل رتبة النيابة البرلمانية إلا عبر التعيين، ويقربُ من ذلك حال المرأة للأسف.
إن التجديد والاجتهاد الجديرين بالوصف الإسلامي وما في معناهما من تطور هو الذي يتغيى غاية واضحة -بحسب درجة تحققها يقاس نجاحه أو فشله- هي تمكين المسلمين بأن يعيشوا عصرهم مسلمين فاعلين، ذلك أنه تجديد يتعلق بدين هو تنزيل من حكيم حميد، بما يفرض الالتزام بأعلى درجات تقوى الله في التعامل معه، استحضارا دائبا من طرف المجدد المجتهد أنه بحسب تعبير ابن القيم يوقع عن الله، إذ يستصدر حكما جديدا في مسألة لم يرد فيها حكم منزل، فيبذل أقصى الوسع أن يكون الحكم الجديد مصطبغا بصبغة الوحي تمديدا لروحه ومنطقه ومقاصده.
هذا الصنف من التجديد لا يتساوق مع منطق الحداثة الذي فرض على كثير من الديانات فأخضعها لمقاييسه وقيمه، بما انتهى بها إلى حالة من التفكك والسيولة والنسبية المطلقة، حتى غدا ممكنا في مجتمعات تنتسب تقليديا للمسيحية، التشريع لاستعمار الشعوب، بل حتى إبادتها، كما فعل بشعوب الهنود الحمر، والتشريع للزواج المثلي، حتى بين القساوسة، وتخريج ذلك على معنى أن المسيحية حب وهذا منه!!
ويقابل هذا المنطق الاستعلائي الحداثي منطق التشدد والانغلاق والطائفية، وهو خطر يتهدد التجديد الإسلامي. أما تحدي الحداثة فالإسلام وحده -كما يؤكد الاجتماعي البريطاني أرنست غلنر- قد "استوعب الحداثة ولم تستوعبه، ووظفها لصالح تجدده محتفظا بجوهره لا يساوم عليه".. أليس "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه"؟
يقدم تنظيم الدولة الإسلامية خيارا زائفا بين الدكتاتورية والتطرف. فيما تثبت تونس أن هناك طريقة أفضل. كما تواجه المزيد من ...
قراءة المزيد