المرأة بين القرآن وواقع المسلمين

05:09:56 2014/09/21

المؤلف : الشيخ راشد الغنوشي 
الناشر : المركز المغاربي للبحوث والترجمة الطبعة الثالثة طبعة مزيدة ومنقحة 1421 هـ 2000 م 
ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين : 

القسم الأول : المرأة في القرآن الكريم
يرى الشيخ راشد الغنوشي أن جهد المفسر للنصوص الشرعية يبقى دائما جهدا بشريا لا يرقي بأي شكل من الأشكال إلى مستوى الكمال والقداسة . فمهما توفرت للمفسر من أدوات الدقة وإتقان الصنعة ، يبقي مجهوده مجهودا نسبيا قابلا للتقويم والتجاوز ، بينما تبقى النصوص الشرعية ( القرآن والسنة ) " دائما فوق القولبة التفسيرية ، محتفظة بثرائها المتجدد بحسب ارتقاء الفكر وتطور العلوم".ص7 و ص8 

أصل واحد : 
ذهب جمهور المفسرين إلى أن حواء قد خُلقت من ضلع آدم . غير أن الشيخ راشد الغنوشي يعارض هذا الرأي معتبرا أن العديد من المفسرين القدامى مثل الرازي ، والمحدثين مثل الشيخ محمد عبده ، ومحمد حسين الطباطبائي ، والشهيد سيد قطب وغيرهم ، ذهبوا إلى أن النفس الواحدة الواردة في الآية الأولى من سورة النساء هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان أنسانا ، أي من جنس واحدة وحقيقة واحدة هي الإنسانية . ويورد الشيخ راشد الغنوشي في سياق هذا الفهم نصا للشهيد سيد قطب يقول فيه " والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة ، وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلا بعد خلق آدم ، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم " . كما اعتبر الشيخ راشد الغنوشي أن الأحاديث النبوية الواردة في هذه المسألة لا تدل بشكل قطعي على أن حواء خلقت من ضلع آدم .فعبارة الضلع الأعوج الذي خلقت منه المرأة لم تذكر هذه الأحاديث إطلاقا أنه ضلع آدم .ويخلص الشيخ في آخر تحليله لهذه الحلقة المتعلقة بمسألة خلق الإنسان ، إلى أن الرأي الأول ( القائل بخلق حواء من ضلع آدم ) هو رأي يُكرس تبعية المرأة للرجل ويُؤصل مبدأ التمييز والتفاضل على أساس الجنس ، الأمر الذي يتنافى ـ حسب رأيه ـ مع مقاصد الشريعة . في حين أن الرأي الثاني ( القائل بتماثل عملية خلق آدم وحواء )هو تأصيل لمفهوم إسلامي إنساني" ناضلت الحركة النسائية المعاصرة طويلا من أجل تحقيقه..وهو تحقيق استقلال شخصية المرأة وتحملها مسؤولية وجودها ومصيرها كاملا . والقضاء على أول وأقدم اضطهاد للإنسان لأخيه الإنسان على أساس الفوارق الجسمية كخطوة أساسية للقضاء على كل تمييز يقوم على أساس العرق والعنصرية والاضطهاد." من ص 8 إلى ص 15 

أسكن أنت وزوجك الجنة: 
حول سبب خروج آدم وحواء من الجنة ، استعرض الشيخ راشد الغنوشي نصوصا من كتب اليهود والنصارى ، ومن القرآن الكريم وفسرها على النحو التالي : 
وردت الشجرة في الكتب الأولى ( التوراة والإنجيل ) كرمز للمعرفة لا يحصل عليها الإنسان إلا بالمعصية ، فعوقب بالنزول إلى الأرض ملاحق باللعنة الإلهية . فالمرأة لأنها هي سبب الفتنة ومصدر الإغواء للرجل ، عوقبت بالجهل وألم الولادة وبالتبعية للرجل طول حياتها . فهي كما أكدت المجامع الكنسية في فرنسا في القرن 16 ، لها روح شيطانية . وعوقب آدم بالتعب وعرق الوجه للحصول على لقمة العيش ، لأنه سمع قول حواء وأكل من الشجرة . 
أما في القرآن الكريم فقد وردت الشجرة كأداة لاختبار إرادة الإنسان ، وتهيئته للقيام بمهمة الخلافة على الأرض . أما المعرفة فهي هبة من الله للإنسان وتكريما له . كما بيٌن الشيخ راشد الغنوشي في سياق التصور القرآني ، أن وجود الإنسان على الأرض ليس كائنا تلاحقه اللعنة مغضوبا عليه ، بل هو أفضل خلق الله كُرم بتحمل مهمة الخلافة على الأرض لإقامة مجتمع الحق والعدل والحرية . أما المرأة فليست هي مصدر الإغواء والتضليل للرجل ـ كما ورد في كتب اليهود والنصارى ـ بل هي " مُخاطَب كفء للتلقي عن ربها على قدم المساواة مع زوجها اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( البقرة 35 ) شريكة له في مهمة الخلافة فـ " استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشؤون البشرية ." من ص 17 إلى ص 24 

وليس الذكر كالأنثى : 
في بداية هذه الحلقة بين الشيخ راشد الغنوشي أن الإسلام قد أعاد للمرأة إنسانيتها وحررها من أغلال القرون المظلمة التي كبلتها قبل الإسلام ، وذلك من خلال تنويه القرآن الكريم بالعديد من النماذج النسائية ( مريم ، بلقيس ، آسية وغيرهن ) . 
في تفسيره للآية 36 من سورة آل عمران بين الشيخ أن العديد من المفسرين قد انتزعوا "وليس الذكر كالأنثى" من إطارها ، لتقديم الذكر على الأنثى . بينما هي قد وردت في سياق تكريم المرأة ودعوة الله سبحانه وتعالى لامرأة عمران إلى نبذ هواجسها وهي تُفجع في الأمل الذي تعلقت به ، وهو أن تُنجب إبنا يكون خادما للمعبد . بينما سياقها الطبيعي تعقيب من الله على قولها رب إني وضعتها أنثى لبيان أن الله يعلم أهمية ما وضعت وهي لا تعلم . ولو كانت تعلم ما أراده الله لها ما حزنت وما تحسرت " فليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي أُعطيت ، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكور ..فمالك تتحسرين وقد أعطيت أنثى خير من الذكر الذي كنت تطلبين ، فليس لتحزنك وأسفك من سبب غير الجهل بقيمة هذا المولود وما أودع فيه من أسرار وعجائب ومعجزات وما سيترتب عن ذلك من تغيير في الأنفس والآفاق وفي المصير البشري جملة . امرأة اصطفاها الله وطهرها من الرجس وهيأها لحمل عيسى عليه السلام . 

وفي نقاشه لمسألة نبوة مريم ونبوة النساء أوضح راشد الغنوشي أن الأصل هو التساوي في النوع البشري بين الذكور والإناث . كما خالف الشيخ رأي القائلين بنبوة الرجال دون النساء ، الذين اعتمدوا على الآية 8 من سورة يوسف " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى "وتبنى في هذه المسألة رأي العديد من الشيوخ والعلماء السابقين مثل ابن عاشور، الذي يرى أن "رجالا " الواردة في الآية لا تدل على جنس الذكور وإنما تدل على النوع الإنساني كما في قوله صلى الله عليه وسلم " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " أي إنسان أوشخص ، وليس المقصود به الإحتراز عن المرأة . فتكليم الملائكة لمريم واصطفائها يدلان حسب رأيه على نبوءتها . فالنبوة تكون للنساء دون الرسالة .وقبل ابن عاشور ، ذهب الإمام القرطبي والعلامة ابن حزم إلى نفس الرأي . وفي سياق توضيحه للفرق بين الحقيقة الإسلامية والحقيقة التراثية رأى الشيخ راشد الغنوشي " إن من أهم المواضيع التي لا يزال الإسلاميون يتعاملون معها من خلال الخلط بين الحقيقة الإسلامية والحقيقة التراثية موضوع المرأة ، فيتعرفون في هذه القضية وغيرها بالرجوع إلى كتب التفسير والفقه آخذين محتوياتها وكأنها ناطق رسمي باسم الحقيقة الإسلامية المطلقة ، فيتحول التراث من كونه عامل تثوير للواقع في اتجاه الإسلام إلى معوق أساسي دون عملية التحول تلك ... فتكرس الحيف الإجتماعي والإستبداد السياسي والفوارق على أساس الجنس واللون والطبقة ، كل ذلك باسم الإسلام ، باسم القرآن والسنة وإجماع العلماء . ص 35 و 36 . كما اعتبر أنه ليس في البنية الطبيعية للمرأة ما يحول بينها وبين بلوغ درجات الكمال الإنساني والتكريم الإلهي كالنبوة . فمجال الترقي مفتوح حسب رأيه أمام الرجال والنساء عربا وعجما ، وليس أمام الجميع سوى محاولة وضع أنفسهم في الطريق الصاعد. وختم الشيخ هذا الفصل بنداء الى المراة بصفة عامة ، والمرأة المسلمة بصفة خاصة قائلا : " يا مريم كل زمان ومكان يا أختاه ، نداء الحق والسمو والجهاد والثورة في الملأ الأعلى يناديك : اقنتي لربك وأقبلي عليه بإخلاص تستمدين منه القوة لتحطيم أغلال القرون ..أغلال الإقطاع ...وأغلال أيديولوجيات التخلف والتبعية والإستعمار التي تريدك جسما منمقا مزخرفا قابلا للتشكل والاستمتاع والإستغلال كما يشاء الرأسماليون والطغاة .." ص37 

إن كيدهن عظيم 
في هذا الفصل بين الشيخ أن الكيد في ذاته ليس ذميمة أو نقيصة ، بل منه ما يحمد وما يذم ، بحسب الوسائل المستخدمة ، وبحسب نبل الأهداف التي يراد تحقيقها أو وضاعتها . فقد ورد الكيد في القرآن الكريم منسوبا إلى الله ، وإلى الإنسان والشيطان ، للرجال والنساء ، للصالحين والطالحين . 

وفي إطار تحليله لهذه المسألة إنتهى الشيخ للنتائج التالية : 

ـ أن الصلاح والتقوى والنبوة لا تُعدم في الإنسان نوازعه وميولاته الغريزية . فهي جبلة في كل إنسان من أجل أداء وظائف أساسية على المستوى النفسي والإجتماعي . 

ـ ليس في ما ورد في سورة يوسف " إن كيدكن عظيم " حكما إلهيا قاطعا محددا للطبيعة الخاصة بالنساء في كل زمان ومكان ، ولم يأت في الكتاب والسنة ما يميز شخصية كل النساء بالخبث والدهاء والإغواء والإدعاء بالباطل . فالآيات التي تحدثت عن الطبيعة الإنسانية لا تميز بين الذكر والأنثى .فالإستعداد للخير والشر يشكل خاصية في النوع الإنساني عامة ذكورا كانوا أو إناثا. 

فالتصور الذي يزعم أن شخصية المرأة وحدها هي المتمحضة للدهاء والشر والفساد والخيانة والإنحطاط ، هو تصور " مناف ومصادم للثورة الهائلة التي أحدثها الإسلام في تحرير النساء والإنسانية كافة من عقلية الإستبداد والطغيان والسيطرة والإستعمار بمبررات جنسية أو إقتصادية أو غيرها " ص44 ولا يزال هذا التصور المُهين للمرأة متفشيا في تراثنا " في التفسير والفقه والأدب الفصيح والشعبي وفي عاداتنا وتقاليدنا ...من خلال تأكيد وإشاعة ثقافة إشلامية منحرفة تحقر المرأة وتلصق بها كل ما هو وضيع ممتهن " ص45 

ـ على فرض التسليم بأن كيد النساء ( أي براعتهن في التوصل إلى أهدافهن ) هو أعظم مما لدى الرجال ، فليس ذلك نقيصة بل هي خصلة لصالحها تمكنها من التوصل بذكاء إلى الهدف الذي تحدده لنفسها لا يصرفها عنه شيء . ويبقى منهاج إستخدام طاقة الكيد تابعا لنمط وطبيعة تربية المرأة ، فإما أن تنير به المجتمع وتدفعه نحو التطور والبذل والفداء ، وإما أن تدفع به وراء كل تافه خسيس شأنها شأن طبيعة تربيتها وطبيعة المجتمع الذي تعيش فيه . 

حب النساء 
" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد "(15) آل عمران 

وردت هاتان الآيتان ـ يقول الشيخ ـ في إطار تربية الجماعة المسلمة على تحرير نفسها وتحرير الإنسانية عامة من المطامع العابرة واللذات القصيرة ويهيؤهم لمستوى أرفع من اللذات الروحية والمادية أعمق وأدوم . 
فمصير أي مجموعة بشرية تجاه قضية الحضارة من حيث اكتسابها أو المحافظة عليها هو رهين " الطريقة التي تتعامل بها مع دوافعها الفطرية ورغباتا الغريزية " . فالتحدي الكبير الذي يواجهنا هو كيفية تفجير الدوافع والطاقات الحيوية لدى الإنسان وتوظيفها في ترقية الحياة دون الإنزلاق بها في طرفي التفريط والإفراط مثل ما وقع في : 

ـ التراث المسيحي الذي يحقر هذه الدوافع الغريزية ويدفع للتطهر من أدرانها لأن اللذة ـ حسب هذا التصور ـ لا تورث غير "غصص الذنب " وذلك بالعودة إلى فكرة الخطيئة الأولى التي اقترنت بحواء رمز الخطيئة وأحبولة الشيطان الذي يزين للإنسان الإقبال على الزينة ليصده عن عبادة الله . 

ـ والتراث اليهودي والوثني الذي لا يحركه سوى الحرص الشديد على إشباع دوافع الجنس، والمال ، والتكاثر . 
" فالتصور الإسلامي للحياة ودور الغرائز يتجه إلى توظيفها بدل قمعها ...كطريق من طرق عبادة الله والتقرب إليه ...للمحافظة على الحياة وترقيتها . وفي ظل هذا التصور ...لا يبقى داع للتحرج من هذه الغريزة وكأنها آفة طارئة على الشخصية أو خلل فيها "ص52 
وفي إطار تحليله لمدى حدة ميل كل جنس للإخر ( المرأة والرجل ) يتجاوز الشيخ رأي بعض مفسريالقرآن الكريم ، ويعود إلى علم النفس الجنسي الذي يرى أن الحياة الجنسية هي وظيفة بيولوجية عند الرجل ، بينما هي ظاهرة نفسية عند المرأة ."ذلك أن حياة الرجل الجنسية تتعلق بذاته بينما حياة المرأة الجنسية تتعلق بشريكها...فالرجل ليس مجرد وسيلة لإشباع حاجتهن الجنسية بل لتحقيق كمال أنوثتهن ...كل ذلك لا يستقيم معه إجراء لفظة "النساء"في الآية على ظاهرها ويتعين معه صرفه إلى معنى الزوجية "ص59 "...عندما يخلو قلب المرأة والرجل من الهموم الكبيرة والمثل العليا ورأسها محبة الله وخشيته وعبادته والجهاد لأجل إعلاء كلمته وتتقلص الشخصية وتتمحور حول المتاع القريب ، تتحول قوة التجاذب بين الرجل والمرأة إلى كارثة على نفسيهما وعلى المجتمع والحضارة جملة . وقد يكون كل منهما للآخر بركة ورحمة عندما تندرج العلاقة بينهما ضمن البرنامج الإلهي لحياة البشر وترقيتها ، عندها يمكن أن تلمح " وراء كل عظيم امرأة ...عندها لا تكون الحياة الجنسية في إطار الزواج مجرد لذة عابرة بل تكامل وسكينة وتشارك لترقية الحياة وتطورها نحو الوحدة والبذل والحرية ".ص 62 

إذا أردنا أن نستعرض أهم الأفكار التي وردت في للقسم الأول من الكتاب يمكننا القول بأن الشيخ راشد الغنوشي أراد أن يُبين فيه ما يلي : 
ـ هناك فرق كبير بين الحقيقة التراثية التي هي جملة ما قام به أئمة وشيوخ الأمة من إجتهاد لتفسير وتأويل النصوص الشرعية ( قرآن وسنة )، وبين هذه النصوص في ذاتها كما وردت عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم . فيجب أن نفصل بين هاتين الحقيقتين ولا نُخلط بينهما بأي شكل من الأشكال ، أي بين الحقيقة التراثية والحقيقة النصية في ذاتها . 

ـ خالف الشيخ راشد الغنوشي جمهور المفسرين في قولهم بخلق حواء من ضلع آدم ، معتبرا أن خلق حواء تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم . فرأي الجمهور حسب رأيه يكرس حالة تبعية المرأة للرجل والإستنقاص من قيمتها وقدراتها مقارنة بالرجل ، في حين أن الرأي الثاني القائل بتماثل عملية خلق آدم وحواء يؤصل مبدأ التساوي في القيمة والقدرة بين الجنسين . 

ـ المرأة ليست هي مصدر الإغواء والتضليل كما ورد في التراث اليهودي ، والمسيحي ، وكتب المفسرين للنصوص الشرعية ، بل هي كائن كُفء يمكن أن تدفع بالمجتمع نحو سبل الصلاح وأبواب الخير إذا أحسنا تأهيلها وتربيتها . 
ـ يعتبر الشيخ راشد الغنوشي أن تنويه القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بالعديد من النماذج النسائية مثل مريم وبلقيس وآسية وغيرهن ، هو سعي من الإسلام لإعادة الإعتبار للمرأة ومساواتها من حيث القيمة والقدرة مع أخيها الرجل ، ورفض أي تأويل أو تفسير للنصوص يكرس مبدأ التفاضل على أساس الجنس . 

ـ ليس في القرآن والسنة تعميم على أن شخصية كل النساء تتميز بالخبث والدهاء والإغواء . فكل ما ورد في هذه النصوص متعلقا بالطبيعة الإنسانية ليس فيه تمييز بين الجنسين . فكلاهما قادر على استعمال طاقة الكيد والدهاء للهدم أو للبناء بحسب المؤهلات التربوية ، وبحسب الوسائل والأهداف المراد تحقيقها. فالإستعداد للخير والشر يشكل خاصية في النوع الإنساني عامة ذكورا وإناثا. 
ـ إن مصير أي مجموعة بشرية فيما يتعلق بمسألة كسب الحضارة أو فقدانها هو رهين نظرتها للغرائز وطريقة التعامل معها . فرؤية الإسلام للغرائز تتجه إلى توظيفها " كطريق من طرق عبادة الله " بدل قمعها أو العيش من أجلها . فغريزة التجاذب بين الرجل والمرأة قد تتحول إلى كارثة وعامل تهديم عندما يكون تصورهما للحياة والغرائز مجرد فناء في اللذة . أما إذا اندرجت العلاقة بينهما في أطار البرنامج الإلهي فإن الحياة الجنسية تكون عبادة لله وترقية للحياة وتطويرا لها . 

القسم الثاني :   المـــــرأة  فـــــي  واقـــــع  المسلــــمين

وضعية المرأة في عصر الانحطاط

أعطى الشيخ راشد الغنوشي تعريفا للانحطاط قال فيه أنه "سلبية الإنسان وعجزه تجاه الطبيعة والمجتمع " واعتبر أن أجلى مظاهر هذه السلبية تظهر " في لون التربية الأسرية التي تشكل المرأة عمودها الفقري " ص65.وجعل هذا الانحطاط  المرأة تنظر إلى نفسها على أنها مجرٌد كائن ضعيف متقبل للإهانة والاحتقار والظلم . كما أن عصر الانحطاط قد ضيق على المرأة وعزلها عن هموم مجتمعها الثقافية والسياسية وحولها إلى مجرد آلة إنجاب . فكانت التربية الأسرية في ذلك العصر آلة منتجة للاستبداد في المسجد ، والمدرسة ، والمؤسسة الاقتصادية والسياسية ، الأمر الذي يحتم علينا ـ إذا أردنا  أي نهضة اجتماعية لأمتنا ـ أن نستبقها  بثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر المرأة من رواسب الانحطاط ، " لأن كل تحول حقيقي في صلب المجتمع ينبغي أن يمر بالأسرة وبالتالي بالعنصر الرئيسي فيها : المرأة ."  66  كما أوضح الشيخ في هذا الفصل أن حال المرأة الغربية المعاصرة لم يكن  ـ من وجهة نظره ـ  أفضل بكثير من حال نظيرتها في العالم الإسلامي ، ذلك أن الثورة التحررية التي تحققت في الغرب لم تقم على منظومة قيم تحمي المرأة من استغلال المؤسسات الرأسمالية لجسدها وتحويلها إلى مجرد مستهلك لمنتجات الزينة  التي لا تعرف الاستقرار ، وبالتالي " تكريس الفكرة القديمة : المرأة متاع أو المرأة جسد ". 67

ليس عصر الانحطاط وحده هو السبب في الحالة اللاإنسانية التي تعيشها المرأة في العالم الإسلامي بل إنه أمام ضعف المؤسسة الدينية التقليدية وعجزها في الغالب عن القيام بثورة تصحيحية من منطلق الإسلام الصحيح ، تدخل  الاستعمار الفرنسي المتغلب في تونس لتغيير الواقع المتردي القائم من خلال الاستحواذ على الأراضي الزراعية والدفع بسكان الريف إلى الهجرة نحو المدن حيث يختلط الناس بعيدا عن علاقات النسب والقرابة والعشائرية ، هادفا من وراء ذلك إلى  تهديم و "كسر الطوق الخارجي الذي كان يحمي القيم الأخلاقية في الريف ، قيم الحياء والشرف ..والعمل على نشر قيمه الثقافية عن طريق المدارس ومؤسسات الإعلام ، وخاصة تلك القيم المتعلقة بالعلاقات بين الجنسين " 67 . وبعد  خروجه من البلاد راهن المستعمر على النظام البورقيبي الذي كان مفتونا بالغرب ومؤمنا بان لحاقنا بركب حضارته لا يمكن أن يتحقق إلا إذا سرنا على هديه في كل مظاهر حياتنا ، كما آمن هذا النظام بأن تحرير المرأة على النمط الغربي هو الطريق الأسرع والوحيد للحاق بالحضارة المتغلبة  ، فانطلق بكل عنف يهدم أركان المجتمع القديم ، فجاءت  مجلة الأحوال الشخصية  و"هوجم الدين في شعائره  التعبدية (كالصيام )، وصودرت مؤسساته (جامع الزيتونة ، الكتاتيب ، الأوقاف ..) وأزيحت لغته في التعليم والإدارة ...ورُبطت البلاد ربطا محكما سياسيا واقتصاديا وثقافيا بالغرب " 69   

وقد جعل هذا التطرف البورقيبي في مسخ هوية الشعب التونسي الحركة الإسلامية ترد على هذا النظام بحماس عنيف وقلة تبصر وتمعن سليم بحقيقة الدين الإسلامي ، فاعترضت "بشدة على عمل المرأة خارج البيت واختلاطها بالرجل في المدارس ، كما دافعت بشدة على تعدد الزوجات وكأن التعدد واجب ديني وليس علاجا استثنائيا ، وشجعت المرأة على الاكتفاء بالحد الأدنى من التعليم وتشددت في رفض كل علاقة بين الرجال والنساء عدا علاقة القرابة والزواج " 69

العمل النسائي في طريق التطور

بعد أن تخلصت الحركة الإسلامية في تونس من التفكير النخبوي الانعزالي ، نشأت أواخر السبعينات حركة نقد ذاتي شملت من ضمن ما شملت مراجعة موقف الحركة من المرأة في عديد المسائل المتعلقة  بها ، فنشأت على إثر ذلك رُؤى ومفاهيم جديدة متعلقة بالمرأة ودورها في الحياة والمجتمع . وانتهت هذه المراجعة  إلى اعتبار المرأة شخص كامل مساوي  للرجل في الإنسانية وتكاليف الشريعة الأمر الذي يستوجب الحد من سلطة الرجل التعسفية عليها وتحريرها من" أوضاع المهانة والصغار والاحتقار ودفعها إلى المستوى الإنساني مستوى الخلافة عن الله شقيقة للرجل مساوية له" 73

عمل المرأة : اعتبر الشيخ أن هذه القضية جديدة نتجت على إثر اتصال المسلمين بالحضارة الغربية ، فالفقهاء السابقين لم يضعوا قيودا خاصة للمرأة تمنعها من ممارسة النشاط الاقتصادي . فهذه الإشكالية الجديدة في العالم الإسلامي في حاجة إذن إلى طرح جديد يأخذ بعين الاعتبار أن " مهمات المرأة الرئيسية  التي لا يمكن لأحد أن يعوضها فيها هي رعاية  الطفولة  وإعداد الأجيال الجديدة ...فالأمومة ورعاية البيت وظيفتان اجتماعيتان من حق المرأة الأم ربة البيت على المجتمع أن تتقاضى أجرا مناسبا على جهودها " 75 كما أوضح الشيخ أن الدعوة الإسلامية في حاجة لوجود العنصر النسائي الإسلامي خاصة في المؤسسات الصحية ، والتعليمية ، والاجتماعية ،  الذي قد " يفوق في أهميته حتى الضرورات الاقتصادية بالنسبة للحركة الإسلامية 76 فما أحوج مجتمعنا إلى زعامات نسائية تقدمن للرأي العام فرصة ممتازة للمقارنة بين نموذج التحرير الإسلامي والنماذج التغريبية . مطلوب من الرجال إعانة الذكيات الزاكيات  حتى يتبوأن مقامات القيادة على كل المستويات ." 77

 تعليم المرأة :  ذكر الشيخ راشد الغنوشي أن هناك تصور بدائي شائع بين كثير من المسلمين مفاده أن المرأة باعتبارها ستكون في آخر المطاف ربة بيت ، فهي  ليست في حاجة إلى درجات علمية عالية وبالتالي يكفيها مجرد القراءة والكتابة . واعتبر الشيخ أن هذا " التصور البدائي" لا أساس له في الدين  ولا هو من المصلحة في شيء . فأي شكل من أشكال الحد من طموح الفتاة المسلمة لبلوغها أقصى ما تسمح به  طاقتها الذهنية هو " مخالفة صريحة لتوجيهات الدين ، وحد من حرية الإنسان وتعطيل لطاقات المسلمين ومساهمة ولو بغير شعور على استمرار ثقافة عصر الانحطاط التي رسخت في المرأة شعور الضعف والخنوع وجعلتها تمارس عملها التربوي غير مزودة بأبسط المعارف العلمية " 78 . فلكي تكون الأم  قادرة على إبلاغ رسالة دينها ، وفهم أبنائها وحسن توجيههم ،  فلا بد لها من أن تنال من العلوم أقصاها . فأغلب المتفوقين من التلاميذ والطلبة " وراءهم أمهات متعلمات متفرغات لهن " 79

 الاختلاط :  اعتبر الأستاذ راشد الغنوشي أن هذه القضية هي قضية حديثة "لم تعرفها كتب الفقه القديمة "81  فقد جاءت ضمن ردود أفعال الحركة الإسلامية على تيارات العصر الجارفة التي كانت البورقيبية أجلى مظاهرها . فالإسلام لم يمنع اجتماع الرجال بالنساء بإطلاق ، بل منع الخلوة والاجتماع في أجواء من الإغراء أو التماسٌ بين الأجساد حرصا منه على نقاء القلوب وسلامة الأعراض " فلا عزل بين الرجال والنساء في صلاة أو في مجلس علم أو سوق  أو ساحة جهاد أو مجلس تشاور في أمور المسلمين ولا عزل بين الرجال والنساء ، فللمرأة أن تستقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدم ضيوف زوجها وكل ذلك في إطار آداب الإسلام وتعاليمه " 82  فتطهير العلاقات بين الجنسين وتفعيل القيم الإسلامية  لا يكون بـ "تكثيف الحجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء والحكم عليهن جميعا بما حُكم به على اللاتي أتين الفاحشة " بل يكون بالتوعية والتربية "وإشاعة  أجواء الطهر والعفة  والتعاون على الخير في العلاقات البشرية "82 فالاتجاه العام والغالب للعلاقات البشرية المعاصرة والمستقبلية برأيه  يتجه بغلبة نحو الاختلاط والتواصل بين البشر .فعلى العاملين في الساحة الإسلامية فهم اتجاهات التطور وسنن الاجتماع البشري والعمل على تسخيرها والاستفادة منها بدل مُصادمتها والاكتفاء بردود الأفعال الحماسية والمتسرعة عليها . وبما أن الإسلام قد جعل من المرأة "إنسانا يعيش لقضية ويلتزم برسالة ويملك نفسه من التردي ويشارك في الاستمتاع أخذا وعطاء" 84  فلا بد لها من الاختلاط بشروطه الإسلامية . فالمرأة مخاطبة في هذا الدين اعتقادا وعملا على قدر المساواة مع الرجل . كما  أن لها طاقة دفع هائلة للزوج والأب والأخ والأبناء ، إما إلى "معالي الأمور وعزائمها ..وإما إلى المنحدرات والسفاسف كما هو الحال الغالب في عالمنا اليوم " 85 .ونظرا لحساسية وأهمية دور المرأة في التحول الاجتماعي والحضاري تتأتى ضرورة توسيع آفاقها المعرفية وفسح المجال لها للتعبير عن مواهبها في كل النشاطات دون حصرها في مجالات ضيقة فليس صحيحا  ما يشاع على أن المرأة كائن ضعيف لا يستطيع تحمل تبعات الدعوة وثباتها على المحن . فمن ذا الذي ينسى دور خديجة ، وأسماء ، وسعاد الفاتح ، وزينب الغزالي ، وغيرهن في التاريخ الإسلامي والإنساني في تثبيت الرجال ونصرة للحق والعدل . فلا  قيام لأي دعوة " إلا بشقيها وإلا ظلت تعرج حتى تهوي " .87

حوار حول المرأة في ثانوية للبنات في تونس

 قضية المرأة : عادة  ما  يُطرح موضوع المرأة في الإسلام  بشكل خاطئ ـ يقول الشيخ ـ لأنه عادة ما لا يُوضع في مكانه المناسب من الهيكل العام الذي انتُزع منه وهو الإسلام الذي يرفض بطبعه أن يكون أجزاء مبعثرة  "نافرة ناشزة " .  فقضية المرأة في رأيه لا بد أن تُطرح في إطار الإسلام الشمولي الذي لا يمكن له أن يثمر ويعمل بشكل سليم إلا إذا لامس كل أبعاد الحياة في إطار شموليته المتحركة . فأي طرح لقضية من قضايا الإسلام  بما في ذلك قضية المرأة في غير هذا الإطار الشمولي للإسلام هو طرح عقيم يؤدي بالضرورة إلى نتائج عقيمة .

 ففي مسألة الزي الإسلامي مثلا ، لا يجب أن يُطرح هذا الموضوع بمعزل عن رُؤية المسلم العامة للكون والحياة والمجتمع ."فالإسلام لا يبدأ عمله مع المرأة  بتطويل الزي أو تقصيره  ولكن بتغيير نظرتها إلى الحياة والغاية منها حتى إذا ما أصبحت تنظر إلى الحياة ليس باعتبارها سباقا مجنونا على اللذائذ  والمتع الرخيصة ، بل على أنها مجا ل لترقي الإنسان من المستوى البهيمي إلى المستوى الإنساني ..حتى إذا ما استقرت هذه النظرة في نفس المرأة ظهر واضحا في سلوكها وعلاقتها مع الناس وفي مظهرها الخارجي ، وكان موقفها من الأوامر التي تتلوها موقف المؤمنين الصادقين "سمعنا وأطعنا " 94 . كما يرى الشيخ أن "ستر المرأة مفاتنها يُؤجج الرغبة فيها ولا يُنقصها ، ويفسح المجال واسعا أمام نمو الإنسان الذي في المرأة ، أي قوى العقل والروح.. بينما التعري يُضعف هذا الشوق إلى أن يقتله " 94 . كما أن الزي المحتشم في نظره هو" أكثر مسايرة للحضارة والتقدم .. بينما تكون الملابس التي تكشف معظم أجزاء الجسم معبرة عن اتجاه رجعي وانتكاسة تصيب المدنية وتعود بالإنسان القهقرى إلى العهد البدائي " . 96    

 تعدد الزوجات في الإسلام : اعتبر الشيخ  إن الضعف الغالب على المرأة إزاء الرجل وحاجتها إليه ليس  ضعفا فطريا فيها وإنما هو نتيجة للمناهج والتوجيهات التربوية التي تتلقاها المرأة في الأسرة والمجتمع ."فلو غيرنا هذه الوضعية الاجتماعية وربينا المرأة على تحمل مسؤوليتها وحدها دون الاتكال على الرجل لتغير هذا الشعور بالضعف والتبعية إلى حد كبير إلى شعور بالتفوق والاستقلال ".97  فالمناهج والأساليب التربوية الناجحة هي تلك التي تبني العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس  التكامل والتراحم والانسجام لا على أساس الغلبة والقهر والتسلط . كما أوضح الأستاذ راشد الغنوشي أن تعدد الزوجات في المجتمع الإسلامي هو حل استثنائي لحفظ عفة وتوازن المجتمع وعدم انهياره أخلاقيا في الحالات الاستثنائية  كالحروب مثلا التي تذهب عادة بالعديد من الشباب الذين هم في سن الزواج . فتعدد الزوجات في المجتمع الإسلامي هو حل استثنائي لحالة استثنائية طارئة  ويبقى الزواج بواحدة هو الغالب في أحوال المجتمع العادية التي تتعادل فيها عادة نسبة الرجال والنساء تقريبا .

التمزق الأسري في تونس ومجلة الأحوال الشخصية

هذا الفصل هو محاولة من الشيخ راشد الغنوشي لتشخيص المجتمع التونسي عموما والأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفاقم ظاهرة الطلاق فيه . فقبل صدور مجلة الأحوال الشخصية  ـ يقول الشيخ ـ كان يُعتقد أن الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة هي : تعدد الزوجات ، وجعل العصمة الزوجية بيد الرجل ، وعدم تغريمه لفائدة الزوجة .  وكان يُعتقد أنه بالقضاء على هذه الأسباب يتم التخفيض إلى حد كبير من نسب الطلاق ، لكن العكس هو الذي حصل . فبعد منع المشرع التونسي لتعدد الزوجات وانتزاع سلطة الطلاق من يد الزوج وإيكالها إلى القاضي واعتماد   تضييقات قانونية مشددة للتقليل من نسب الطلاق لكن ازدياد هذه النسب بشكل مهول رغم هذه التشريعات التضييقية يقودنا بالضرورة ـ يقول الشيخ ـ  للبحث عن أسباب أخرى عميقة  تفسر هذه الظاهرة .

 فالأستاذ راشد الغنوشي يرى إن نظرة طرفي الزواج لهذا الأخير هي المحدد الأساسي لتواصل أو انقطاع الرابطة الزوجية . فهذه الرابطة برأيه لا يجب أن يُنظر إليها على أنها مجرد وظيفة جنسية أو اقتصادية بل على أنها  رابطة مُقدسة  أوجدها الدين وعلى أساسه قامت واستمرت ، "والتجربة تثبت أنه كلما اهتز الأساس الديني في مجتمع كلما اهتزت هذه المؤسسة واتجهت في طريق الزوال بزواله " .100

مجلة الأحوال الشخصية

اعتبر الشيخ راشد الغنوشي أن مجلة الأحوال الشخصية هي " مفخرة النظام البورقيبي وإحدى القوائم الأساسية له " 101 كما اعتبر الشيخ أن هذه المجلة  قد ساهمت إلى حد ما في تحرير المرأة من العديد من الأغلال والمظالم ، لكنه أردف موقفه هذا منها بعدة تعليقات أخرى جاءت كما يلي :

ـ  المكاسب التي حققتها المرأة في تونس ليست هي ثمرة لصدور مجلة الأحوال الشخصية لوحدها كما تدعي البورقيبية ذلك ، بل هي ثمرة طبيعية " لحركة الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين .

ـ  التغييرات التي أدخلها النظام البورقيبي على بنية المجتمع التونسي ـ وكانت مجلة الأحوال الشخصية معبرة عنها ـ لم تكن " ثمرة تأمل موضوعي لواقعنا متحررا من ضغوط الغرب والانبهار بمنطقه للمدنية ..لذلك غلبت على هذه الحركة للتحرير النسوي طابع التقليد الأعمى والشكلانية الفجة " 103

ـ  الخطر الحقيقي لا يكمن في بعض نصوص المجلة الشخصية  بل فيما صاحبها من " موجة التغريب والثورة العمياء ضد كل تراثنا الفكري والثقافي والتشريعي والرغبة في تقويض البناء الاجتماعي الموروث لاكتساب بطولة التجديد ..وفي مثل هذا الجو الثقافي والنفسي تأتي جملة من التشريعات لترويج ما بقي من عقبات قانونية في طريق الفساد " 104 كالزنا الذي لم يعد جريمة في حق المجتمع ، وإشاعة وسائل منع الحمل ، وإباحة الإجهاض ( 000 59  سنة 1980 ) وغيرها .

ـ  إن الحرية الحقيقية  للمرأة في رأي الشيخ هي انعتاقها من مجرد كونها جسد يُشتهى أو دمية تُعرض ، بمعنى تحررها من كل أشكال العبودية المسلطة عليها واكتشاف الكائن الإنساني فيها والعيش وفق مقتضياته ، "وهي مقتضيات تتجاوز الخصوصيات الجنسية ذكرية أو أنثوية ..فالإنسان إنسان قبل أن يكون ذكرا أو أنثى" 106 . وانطلاقا من هذا المفهو لحرية المرأة ينته الشيخ إلى نتيجة مفادها أن المرأة البورقيبية لم تتحرر من المؤسسات الرأسمالية الخارجية والداخلية التي اعتبرت المرأة مجرد جسد للعرض وتعاملت معها " كسلعة في سوق الشغل والإعلام والسياحة ..لاستجلاب الزبائن والترفيه على السواح وسوقا لا تنضب للاستهلاك  اللاهث " 106 . فالمرأة التونسية كما الرجل لا يزالا في رأي الكاتب  ضحية للبورقيبية وامتداداتها .

ـ  ليس حصول المرأة التونسية على ثلاثة أرباع مواطن الشغل أثناء المخطط الرابع ( 73  إلى 76  ) حبا فيها بل إن ذلك اندرج ضمن مخطط المؤسسات الرأسمالية العالمية ( الوكالة الأمريكية للتنمية ، البنك العالمي ، الصندوق الأممي للأنشطة السكانية وغيرها ..) لاستغلال وتدمير بناء المجتمع التونسي وغيره من مجتمعات العالم الثالث . فتشغيل المرأة بهذه النسبة يزيد من أرباح المؤسسات الرأسمالية لأن أجور النساء تكون عادة أقل من أجور الرجال حتى في الدول الرأسمالية ، كما أن تشغيل أكبر عدد ممكن من النساء يُجبرهن على تأجيل وتحديد الولادات الأمر الذي يضمن ويُسهل  لهذه المؤسسات الإمبريالية العالمية التحكم في مجتمعات العالم الثالث عموما  وتوجيهها وفق ما يتناغم مع مصالحها ومخططاتها الاستغلالية . لذلك " يحق للرأسمالية أن تعتز بأنها غيرت خريطة المجتمع التونسي من خلال تغييرها لخريطة العائلة خاصة " 110 .

ـ  لم تكن مجلة الأحوال الشخصية ثمرة تطور ذاتي وطبيعي للمجتمع التونسي واستجابة لمطالبه الوطنية بل جاءت ضمن الأجواء التغريبية لمجتمعنا " للقضاء على ذاتيته العربية الإسلامية ، وكانت صفقة الاستقلال جزءا من تلك الحملة "   111 . فحتى العديد من العلمانيين قد اعترضوا على بعض بنود هذه المجلة ( تعديل 1982 القاضي بتمليك المطلقة بيت الزوجية وتمتيعها بغرامة عمرية  مثلا ) فكان هذا التعديل عقبة إضافية لصرف الرجال عن الزواج . فالمرأة لم تحقق شيئا كبيرا من وراء هذه المجلة ـ يقول الكاتب ـ لأن رهان النظام البورقيبي على المرأة " لم يكن رهانا حضاريا وإنما كان رهانا رأسماليا سياسيا " . 111

حق المرأة بل واجبها في المشاركة العامة في الحياة السياسية

انطلق الشيخ راشد الغنوشي لمعالجة موضوع مشاركة المرأة المسلمة في الحياة العامة من مُسَلٌـمة مفادها أن" علماء الأصول والتفسير والفقه متفقون أن خطاب التكليف يستوي فيه الرجال والنساء .. فالخطاب إلى المؤمنين أو المسلمين أو الناس ـ وسائر الصيغ التكليفية العامة يشمل الرجال والنساء على حد سواء ..فالعموم والمساواة هي الأصل عدا ما تعلق به خصوص للرجال أو النساء "  112 / 113 . ولتأصيل مشاركة المرأة في الحياة العامة في المجتمع  يسرد الكاتب  عديد الأمثلة من عهد النبوة والخلافة الراشدة لمشاركة المرأة إلى جانب أخيها الرجل في الدعوة وتثبيت الدولة  ، فكانت المرأة هي أول من استشهد ، كما شهدت اجتماع العقبة الثانية ، وشهدت كل وقائع الإسلام ،وأشارت على رسول الله  صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، ونقلت إلى الأمة علوم الإسلام ، وهاجرت ، واضطُهدت ، وولٌيت قضاء الحسبة ، واستُشيرت  في تولي الخلفاء . ويتساءل الأستاذ راشد الغنوشي بعد سرده لهذه الأمثلة لمشاركة المرأة في كل أوجه الحياة العامة للمجتمع الإسلامي الناشئ قائلا : "وإذا كان كل ذلك لا يُعد مشاركة سياسية ، فماذا عساها أن تكون المشاركة السياسية ؟  116 ..أليس مخجلا أن يستمر صدور الفتاوي في بعض أقطار الإسلام عن بعض أهله بتحريم مشاركة المرأة في العمل السياسي ، وحتى قيادة جَمَلها ، بينما المرأة الإسرائيلية تغير على مدننا ومساجدنا ؟ " . 118

وفيما يتعلق بالمطلب الثاني أي مشاركة المرأة المسلمة ليس كناخبة بل كمرشحة وكيلة عن غيرها ، فقد حاول الأستاذ راشد الغنوشي دحض الأسس التي بنى عليها الشيخ المودودي موقفه  لإقصاء المرأة عن المشاركة في الحياة العامة كناخبة وكمرشحة  . فقد اعتبر الشيخ المودودي أن " الرجولة شرط في عضوية مجلس الشورى فضلا عن الترشيح لرئاسة الدولة ..وأن السياسة والحكم خارجان عن دائرة أعمال المرأة " 121 مستدلا على ذلك بآية القوامة عدد34 من سورة النساء وحديث " لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "الذي رواه أبو بكرة .

بدأ  الأستاذ راشد الغنوشي نقده لهذا الموقف بالقول أن قوامية الرجال على النساء المذكورة في الآية إنما قُررت فقط في الحياة الزوجية . فقوله تعالى " وبما أنفقوا من أموالهم " يدلنا على أن القوامة المذكورة في الآية تنحصر في الأسرة دون غيرها .." أما ولاية بعض النساء على بعض الرجال خارج نطاق الأسرة فلم يرد ما يمنعه " 119 وما دامت المرأة قادرة على أن تنصح وتُشير على غيرها بما تراه صوابا في إطار مبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " فلا يوجد دليل شرعي يمنع عضويتها في مجلس يقوم بهذه المهمة ." 120 كما اعتبر الشيخ أن عدم دخول المرأة في مجالس الشورى في العصور الإسلامية السابقة لا يقوم دليلا شرعيا على المنع لأن " الشورى لم تُنظم تنظيما دقيقا لا للرجال ولا للنساء "120  فالقوامة إذا كان معناها الرئاسة بإطلاق ـ كما يرى الشيخ المودودي ـ تكون النتيجة منع المرأة من الرئاسة أبدا حتى إذا كانت دار رعاية ، أو مستشفى، أو متجر ، أو مصنع ، أو مدرسة "وهو شطط لم يذهب إليه أحد من علماء الإسلام القدامى أو المحدثين "  123  فحتى سيد قطب رغم منزعه السلفي في التفسيرـ يقول الشيخ ـ قد اعتبر أن سياق آية القوامة لا يعني الرئاسة العامة للرجال على النساء في كل شأن ، بل إن سياقها هو "حديث عن الخلافات الزوجية مما يقضي أن الرئاسة الواردة في الآية لا تتجاوز نطاق الأسرة ". 123 

أما فيما يتعلق بالحديث النبوي المروي عن أبي بكرة  فقد ذهب الشيخ راشد الغنوشي إلى أن هذا الحديث قد ورد بخصوص حادثة معينة وهي أن قوم كسرى فارس قد ولوا ابنته مكانه بعد موته ، فقال صلى الله عليه وسلم  ذلك القول تعبيرا عن سخطه على قتلهم رسوله إليهم . لذلك لا يصلح هذا الحديث "أن يكون مرجعا في مادة القانون الدستوري ، خاصة وأن علماء الأصول لم يتفقوا على أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب . فما كان لفظه عامٌا لا يعني أن حكمه عامٌا أيضا ، الأمر الذي يجعل الحديث لا ينهض حجة قاطعة فضلا عن ظنٌيته من جهة السند " 122 . فالصحابي أبو بكرة  قد حُدٌ في القذف الأمر الذي يجعل هذا الحديث لا يصلح لأن يكون أساسا في الأحكام الشرعية وخاصة منها ما تعلق بنظام الدولة الذي لا يجب أن يُبنى على أساس ظنيٌ مهما كانت درجة الظنية ضئيلة . "والنتيجة أنه ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة من الولايات العامة قضاء أو إمارة " . 123   

 وفي الإشكال  الأخير المتعلق  بحق المرأة في الولايات العامة  ومنها رئاسة الدولة  فقد ذكر الشيخ راشد الغنوشي عدة أسماء من الأئمة السابقين كالطبري ، وأبو حنيفة ، وابن حزم الأندلسي ، الذين أجازوا للمرأة تولي القضاء وهو من الولايات العامة التي تقاس شروط الإمامة عليها . كما ذكر العديد من أسماء الأئمة المحدثين كالشيخ الأزهري عبد الله دراز الذي أجاز للمرأة النشاط الاجتماعي والسياسي بمختلف أنواعه وأشكاله ، والشيخ محمد الغزالي ، والشيخ يوسف القرضاوي ، الذان  يريان  أنه " ليس في التصور الإسلامي من حاجز ديني حقيقي يُحظر على المرأة تبوٌأ أي منصب في الدولة الإسلامية  والمجتمع الإسلامي قد تأهلت له  بما  في ذلك رئاسة  الدولة ". 124

في هذا القسم الثاني من كتاب المرأة بين القرآن وواقع المسلمين أكد الشيخ راشد الغنوشي على ما يلي :

ـ  ليس عصر الانحطاط وحده هو المسؤول عما تُعانيه المرأة من تهميش على عدة مستويات بل إن الاستعمار الغربي والأنظمة الاستبدادية المُلحقة به في بلداننا قد ساهمت  أيضا في الإبقاء على حالة التهميش هذه .

ـ  أن تطهير العلاقات بين الجنسين وتفعيل القيم الإسلامية في الواقع لا يكون بـ " تكثيف الحُجب وتحويل البيوت إلى سجون للنساء  " بل يكون بالتوعية وبثورة تربوية على مستوى الأسرة تُحرر  المرأة من رواسب الانحطاط وتفتح أمامها سُبل تصريف طاقاتها ، ذلك أن كل تحول حقيقي في صلب المجتمع" ينبغي أن يمر بالأسرة وبالتالي بالعنصر الرئيسي فيها : المرأة " فهذه الأخيرة  لها طاقة هائلة للدفع نحو معالم الطًهر والعفة  والتعاون على الخير في العلاقات البشرية إذا أحسنا تأهيلها وفتحنا أمامها أبواب العلم والمعرفة .ـ  ليس هناك في الإسلام ما يقطع بمنع المرأة من المشاركة العامة في الحياة السياسية  كناخبة  وكمرشحة  وكيلة عن غيرها بما في ذلك رئاسة الدولة . وأن هذه المشاركة هي شرط من شروط نهضة الأمة وبالتالي لا بد من إزالة كل العوائق والعراقيل التي تمنعها
من هذه المشاركة  .

بعض الملاحطات حول الكتاب :

ـ  يقول الشيخ راشد الغنوشي في الصفحة 119 من الكتاب وفي هامش بنفس الصفحة  أن " عدد النساء اللاتي يُرشحن للمجلس النيابي سيظل محدودا ..وقل جدا أن وصل إلى الربع ..وستظل الأكثرية الساحقة للرجال .. ذلك أن طبيعة توزيع الوظائف  في المجتمع إنما اقتضته الفطرة " .  وهنا  أود أن أُلفت نظر الشيخ إلى حالة جديدة حدثت بعد صدور هذا الكتاب ، وهي أن عدد النساء في البرلمان الروندي قد فاق عدد الرجال في دورتين برلمانيتين متتاليتين ، وهذه الحالة وإن كانت شاذة  وفريدة من نوعها في كل دول العالم  إلا أنها تُنبهنا إلى إمكانية توسعها في بلدان أخرى إذا فُسح المجال أمام المرأة لإثبات قدراتها وتغيرت رُؤية المجتمع لمسألة توزيع الأدوار فيه بين الرجال والنساء  .

ـ  لئن شرح الأستاذ راشد الغنوشي جيدا الأطوار التي جاءت فيها مجلة الأحوال الشخصية إلا أن موقفه منها بدا  لي غير مستقر . فهو من ناحية يقول في الصفحة 102 " إنه من المؤكد أن مجلة الأحوال الشخصية قد دفعت عن المرأة هذه المظالم ، وحررت العقول شيئا ما من آثار تلك النظرة الدونية . كما حررت المرأة ذاتها من جوانب احتقار الذات واستنقاصها ، وأعادت إليها ثقتها بنفسها كإنسان مسؤول مسؤولية كاملة أو جزئية عن مصيره " . ويقول من ناحية أخرى في الصفحة 111 من الكتاب " إن المرأة كما تقول السيدة زينت الهمامي لم تحقق شيئا كبيرا من وراء مجلة الأحوال الشخصية ".

ـ  بدا لي من خلال هذا الكتاب أن إيمان الشيخ راشد الغنوشي بالحرية كقيمة إسلامية وإنسانية عليا من حق كل إنسان أن يتمتع بها ، وانتصاره للمرأة ككائنة كاملة الإنسانية وقادرة على الفعل الإيجابي في الكون والمجتمع  أشد من حذره  للإقدام على مُصادمة ظاهر بعض النصوص الشرعية  ومخالفة  بعض ما هو شبه مُجمع عليه من تصورات  في ثقافتنا العربية الإسلامية

صفحة الفايسبوك
قالوا عن الشيخ
الغنوشي قضى عقودا طويلة دفاعا عن الحقوق والحريات في تونس ولكل الشعوب في العالم.. أنا ممتنة جدا للتضحيات العظيمة التي قدمها
الحقوقية سارة ليا ويتسون
الغنوشي قضى سنوات وهو يصارع لإرساء الديمقراطية في تونس.. إنه لأمر مؤسف أن يقضي عيد مولده خلف القضبان
اللورد دانيال هانان
أعلم أنك رجل صبور للغاية، وجودك في السجن هو أمر مؤسف للتونسيين ولكل من يهتمون بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم
الكاتب والجامعي نوح فيلدمان
حياة الشيخ راشد الغنوشي كانت حياة عطاء بلا حساب.. لن ينال السجن من إشعاعك وتأثيرك.. كل عام وأنت وأهلك بكل خير
أحمد نجيب الشابي زعيم جبهة الخلاص
حساب تويتر